Monday 25 November 2019

17 – أين نحن من الحضارة


17 – أين نحن من الحضارة


وضعت الكثير من التعريفات بسبب الكثير من الخلافات ووجهات النظر عن ماهيّة الحضارة، وخاصة عند التحدث عن المدنية وعن الثقافة، لذلك يوجد العديد من التعريفات، يَقْصُر معظمها عن كونه جامعاً مانعاً، ووجدت أن أكثر هذه التعريفات أهمية وإختصاراً وتحديداً لمعنى الحضارة هو ما يلي: الحضارة صفة للأمّة والمجتمع تتمثّل في الرقيّ والإزدهار والقيم والمبادئ والأخلاق والسلوك والروح السائرة بين أفراد الأمّة في التنظيم والتخطيط والأوضاع السياسيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة وكلّ هذه العناصر في ترابط فعّال متحرّك تؤدّي إلى ما يعرف بالحضارة أو التحضّر[i].
لكنّ الحضارة الإسلامية هي الوحيدة التي أثبتت من خلال التشريع والتطبيق بأنّها فعلاً تليق بالإنسان المكرّم المستخلف والوحيدة التي يمكنها أيضاً المحافظة على الأرض بمن وما فيها بشكل مستدام.
وتمتاز الحضارة من منظور إسلاميّ بأنّها أوسع من مفهوم الحضارة، والمدنيّة، والثقافة معاً ليشمل كافّة أبعاد الحياة الإنسانيّة، روحيّة وعقليّة وجسديّة، دنيويّة وأخرويّة، كونيّة وأرضيّة، فرديّة وعائليّة ومجتمعيّة ودوليّة، وهكذا:[ii] لأنها رؤية شاملة للكون والحياة والإنسان .. برنامج عمل ومنهاج حركة يهيمن على سائر المعطيات الحضارية: مدنية وثقافية، ولا ينضوي تحت أي جزئية منها، مهما كانت فاعلية هذه الجزئية وغنى معطياتها.
فإذا إستقرأنا الآيات القرآنيّة التي تدلّ على الحضارة أو توصّفها رأينا أنّ الحضارة في القرآن الكريم هي مطلب إلهيّ كُلِّف الإنسان به عندما كرّمه وشرّفه وفضّله الخالق عزّ وجلّ على المخلوقات كلّها التي سخّرها له، وإستخلفه في الأرض ليستعمرها وليقيم دين الله عليها ويستقيم عليه منهاجاً عامّاً وشاملاً للحياة على الأرض كما يحبّ الشارع جلّ جلاله ويرضى. لذلك زوّد الخالق البارئ المصوّر الإنسان الضعيف العجول الجزوع بكلّ المقوّمات والإمكانات التي تخوّله حمل هذه الإمانة العظيمة.
فقد أنعم عليه أولاً بنعمة الإرادة الحرّة وعلّمه تحمّل مسؤوليّة قراراته الحرّة، وزيّنه بالفكر والعلم والقدرة على التعلّم، ولقّنه إحترام العلم والعلماء وأدوات العلم، كي تكون القرارات مبنيّة على العلم والفكر، وعلّمه أنّ العلم والرأي الصائب يأخذان حيّزاً مهماً من الوقت، فألهمه الصبر والتأني والتروّي كي لا يتعجّل الأمور فيسيء الإختيار، وعلّمه وأرسل إليه الرسل يبشّرونه حسن الختام إذا صبر وأصاب وينذرونه سوء الختام إذا تعجّل فأساء إلى نفسه، وزوّده بالتشريع وناموس الحياة كي يهتدي به سواء السبيل إلى النور فلا يتيه في الظلمات الموحشة. وسخّر له المخلوقات جميعاّ لتكون عوناً له في رحلته وأمانته على الأرض، كما سخّر له قوى الطبيعة ليُعمِل عقله فيكتشف أسرارها ومنافعها وأضرارها ليطوّعها لخدمته ومنفعته في تنفيذ رسالته.

الحضارة مطلب إلهيّ

وبهذا الإستقراء للقرآن الكريم والسنّة الشريفة، لا نرى أنّ الحضارة مطلب إلهيّ فحسب، بل إنّ الحضارة هي سبب وجود الإنسان على الأرض، هذا الإنسان الذي كرّمه الخالق عزّ وجلّ وفضّله على الكثير من خلقه، وأتمنه أمانة العقل والحريّة، واستخلفه في الأرض ليعمل عليها ويستعمرها كما يحبّ الخالق الغفور الودود ويرضى، وسخّر له الكثير من المخلوقات لتساعده في هذه المهمّة الجليلة، وكافأه على توحيده وإخلاص كلّ عمل لوجهه الكريم بأنّ حوّله له إلى عبادة يجزى بها.
إذن العمل الحضاري هو إستعمار الأرض وإقامة الدين الخالص لله، بإخلاص النية لوجه الله تعالى وتبارك، وإحتساب الأجر عليه سبحانه في كلّ حركاته وسكناته ليلتفّ إذاً كلّ عمل حضاريّ، أو أيّ تحصيل علم أو عمل بنّاء يصبّ في إتجاه هذا العمل وبتوجيه العلم والشريعة بثوبٍ قشيبٍ من العبادة التي يثاب عليها فاعلها، حتى زرع شجرة أو زرعة يؤجر بسبب كل مخلوق إستفاد منها إفادة ما، وقياساً يشتمل هذا على كلّ عمل مفيد يتعدّى الإنسان إلى غيره من الناس والمخلوقات، إنّما خصّ الشجرة للإفهام على مقصد التخطيط والتفكير بالمستقبل وبالأجيال القادمة وبالإستدامة، وبطبيعة الحال يكون إعمار الإنسان من خلال العلم والعمل لكي يحمل اللاحقون شعلة الإستعمار وبناء الحضارة من السابقين هو الأهمّ والأجدى والأكثر نفعاً وأجراً، كما يقول المثل الصيني "إذا أردت أن تزرع لسنة فازرع قمحاً، وإذا أردت أن تزرع لعشر سنوات فازرع شجرة، أما إذا أردت أن تزرع لمئة سنة فازرع إنساناً".
ولا أستطيع في هذا المقام إلاّ تذكّر أنّ الحضارة الإسلامية هي الوحيدة من بين كافة الحضارات البشريّة التي يمكنها النهوض والإنبعاث مرة أخرى في أي لحظة لأنّ مقوّمات نهوضها، كما بيّنها الشارع جلّ جلاله ليست مرتبطة بزمان أو بمكان أو بجماعات أو بأفراد، إنما ترتبط بآليات علميّة سببيّة، إذا إستكملنا المسببّات حقّقنا الأسباب، وهذا كان واقع الحال الذي كان ينطبق في كل مرة، ولن يتبدّل ولن يتحوّل.
وبنفس الدرجة من الأهمّية، علينا أن نوقن بأنّه لا توجد أيّ حضارة أخرى كرّمت الإنسان، كلّ إنسان مهما كانت سماته ومميّزاته[iii]، ووضعته فوق الكثير من المخلوقات[iv]، وإعتبرت أنّ الكون كلّه مسخّر له في مهمّته الإستخلافيّة على الأرض لإعمارها وإستعمارها، لأنّه الإنسان الذي خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلّفه وشرّفه، وأسجد له ملائكته الكرام[v]، وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً[vi]، وأحلّ له الطيّبات التي تليق به، وحرم عليه الخبائث التي قد تؤثر سلباّ عليه أو تشينه وتخزيه أو تطعن في تكريمه[vii]. ومن كَرَم الله على النفس البشرية أنّه أنعم عليها بنعم ظاهرة وباطنة، لا تُحصى ولا تُعَدُّ[viii] لتتمّكن من أداء الأمانة المكلَّفة بها على أفضل وجه وأحسنه.
إنّها الحضارة الوحيدة التي تجعل الحياة في توازن دائم على كافّة الأبعاد والمستويات[ix]، كفيلة أن تقود البشرية لتحقيق إستعمار حقيقيّ للأرض كما يحبّ الله سبحانه وتعالى ويرضى: حضارة جمعت الدين بالعلم، ووازنت الإيمان مع العقل، ورفعت الجسد ليتطلّع دائماً نحو الروح، وأرست قواعد طلب الدنيا والآخرة يضافران معاً، وأطلقت الأخلاق السامية لتحفظ الحريّات من إعتقادية وفكرية وتعبيرية ومُلكية وإجتماعية ومالية.
إنّها الحضارة الوحيدة التي تقدّم للبشرية الدين القويم القيّم بيد، وباليد الأخرى تحثّ على تحصيل العلم، كافّة أنواع العلم. حضارة تطلب الإيمان بالله وبرسالاته، وبلقائه وبحسابه وعدالة جزائه، وتستنهض إستعمال العقل للتفكّر والتدبّر في خلق الله وآياته في مخلوقاته للتفكّر والتدبّر، للإتّعاظ والإنتفاع والإستفادة منها دون إسراف وإستثمارها دون التسبّب بأضرار. حضارة تتسلّح بالحق في وجه الباطل وتمارس القوّة لحمايته، حضارة تزيّنها مكارم الأخلاق والقيم الإنسانيّة العليا، بل وتحثّ على هذه الأخلاق في الممارسة بعد تكريسها في التشريع.
ومن واقع تكريمها للإنسان، إنها الحضارة الوحيدة التي إستطاعت تقديم تشريعات وممارسات لأسس ومفاهيم إنسانيّة لم تستطع كلّ التشريعات الوضعيّة مقارعتها بمثلها حتى بعد أربعة عشر قرناً[x]:
1.    توحيد الوجهة والقصد في أمور الإستخلاف والتعمير وأثرها على ترشيد الإنتاج والإستهلاك، مما يؤمّن إستدامة الموارد الطبيعيّة وتوزيع عادل للثروات، ويفعّل اللامركزيّة الإداريّة والتنمية المحليّة المتوازنه المستدامة والإستصلاح الشامل المتكامل لكافّة الموارد المتاحة.
2.    توحيد التشريع وفلسفته بمرجعيّة واحدة للنصوص، والإطلاق في الملك والإرادة والحرية لله وحده.
3.    توحيد الأمة في تقبّل وإستيعاب ودمج ما لا يحصى من الشعوب والأعراق والأنساب والقبائل والمعتقدات والأديان والثقافات والحضارات دون الغلبة على أيّ منها أو قهرها، مما يدفعها للمساهمة الفاعلة في محيطها دون تردّد أو حواجز نفسيّة أو ماديّة أو إجتماعيّة.
4.    "فمن مقومات الإصلاح الديني: الإصلاح السياسي المدني، على أن الإصلاحين متلازمان في الأمة الإسلامية، لا يقوم أحدهما حق القيام إلا بالآخر، والشريعة الإسلامية هادية للإصلاحين، إذ كلّ خير وصلاح للعباد يتعلّق بالمعاش والمعاد قد قررّه الإسلام"[xi].
5.    القضاء على آفات إجتماعيّة ونفسيّة وماليّة عالميّة فتّاكة مثل: القذارة والسكر والقمار والزنا والشعوذة والربا والخيلاء والإسراف والتبذير والشح والإحتكار والإقطاعيّة وعقوق الوالدين وتفكّك العائلة وتفكّك الجيرة والمجتمع. بل والقضاء على كل ما يهدّد حفظ الدين، والنفس، والمال، والعقل، والنسل، وكذلك تحفيز كل ما يصبّ في تفعيلها. وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: "اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على هذه الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل"[xii].[xiii].
وممّا لا ريب فيه أنّ هذه الشريعة العظيمة حوّلت العرب من شراذم مهمّشة إلى نواة أمّة ذات قوة جرَارة، فتحت في ثماني عقود ما تجاوزت مساحته الجفرافية ما إستعبدته الإمبراطورية الرومانية في ثمانية قرون! حيث أزالت كل الطواغيت التي كانت تتحكّم في حوض الحضارات القديمة الرازحة تحت وطأة قرون طويلة من القهر والإستبداد، فحررّت الفتوحات الإسلامية الشعوب المقهورة في أوطان الشرق وحولها وأسسّت في جزء كبير من العالم القديم الدولة العالميّة الأولى، الوحيدة في الواقع، وأصبحت هذه الدولة ملاذا آمنا لكلّ مضطهد بسبب عرقه، أو لونه، أو عقيدته.
والناظر بتجرّد إلى كل هذه الملمّات والأحداث التي تعصف بكوكب الأرض لا يسعه إلاّ التيقن من أن الحلّ الوحيد لإنقاذ البشرية من الكارثة المحققّة الوشيكة هو عودة الشريعة الإسلامية تشريعاً وعملاً: لتخرج هذه البشرية من الظلمات. ظلمات الوهم والخرافة. وظلمات الأوضاع والتقاليد. وظلمات الحيرة في تيه الأرباب المتفرقة, وفي اضطراب التصورات والقيم والموازين . . لتخرج البشرية من هذه الظلمات كلها إلى النور. النور الذي يكشف هذه الظلمات. يكشفها في عالم الضمير وفي دنيا التفكير. ثم يكشفها في واقع الحياة والقيم والأوضاع والتقاليد[xiv].



[i]  محمد توفيق السبع، قيم حضاريّة في القرآن جـ 1، ص 43
[ii]  عماد الدين خليل، مدخل إلى الحضارة الإسلامية، ص 11
[iii]  (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التِّينِ:4)
[iv]  (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء:70)
[v]  ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ ~ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (ص:71-72)
[vi]  ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الجاثية:13)
[vii]   (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف:157)
[viii]  ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النحل:18)
[ix]  (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (البقرة:143)
[x]  د. طه جابر العلواني - الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر – ص 64 – 65 - بتصرف
[xi]  محمد رشيد رضا - [تفسير المنار:4/429] - موقع المكتبة الإسلامية
[xii]  الشاطبي - [الموافقات: 1/31]
[xiii]  الشاطبي - [الموافقات: 2/552]: "وحفظ الشريعة للمصالح الضرورية وغيرها يتم على وجهين، يكمل أحدهما الآخر، وهما: حفظها من جانب الوجود لا يحققها، يوجدها، يثبتها ويرعاها وحفظها من جانب العدم بإبعاد كل ما يزيلها أو ينقصها، أو يجعلها تختل أو تتعطل، سواءً كان شيئاً واقعاً أو متوقعاً الشرع يمنعه، أي شيء يخل بالضروريات، أو ينقصها، أو يعطلها، أو يخل بها يمنعه الشرع، سواءً كان واقعاً أو متوقعاً، فإذا كان واقعاً فالشرع يريد رفعه وإزالته، وإذا كان متوقعاً فالشرع يريد منع وقوعه وتجنبه"
[xiv]  تفسير الآية الكريمة (الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم:1) سيد قطب - في ظلال القرآن

2 comments: