Thursday 14 March 2019

8 - الحضارة الوحيدة التي تليق بالإنسان المكرّم المستخلف

08 - الحضارة الوحيدة التي تليق بالإنسان المكرّم المستخلف

لا توجد أيّ حضارة أخرى لا سابقة ولا لاحقة كرّمت الإنسان، كلّ إنسان مهما كانت سماته ومميّزاته[i]، ورفعت من شأنه فوق الكثير من المخلوقات[ii]، وإعتبرت أن الكون كلّه مسخّر له في مهمته الإستخلافية على الأرض، لأنّه الإنسان الذي خلقه الله بيده[iii]، ونفخ فيه من روحه، وكلّفه وشرّفه وأسجد له ملائكته الكرام[iv]، وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً[v]، وأحلّ له الطيبات التي تليق به، وحرم عليه الخبائث التي قد تؤثر سلباّ عليه أو تشينه وتخزيه أو تطعن في تكريمه[vi]. ومن كَرَم الله على النفس البشريّة أنّه أنعم عليها بنِعم ظاهرة وباطنة، لا تُحصى ولا تُعَدُّ[vii] وذلك لكي تتمكن من أداء الأمانة المكلَّفة بها على أفضل وجه وأحسنه، من واقع تسهيل المهمة الصعبة.
إنّها الحضارة الوحيدة التي تجعل الحياة في توازن دائم على كافّة الأبعاد والمستويات، كفيلة أن تقود البشرية لتحقيق إستعمار حقيقيّ للأرض كما يحبّ الله عزّ وجلّ ويرضى: حضارة رفعت من شأن العلم بالدين، ووازنت الإيمان مع العقل، ورفعت الجسد ليتطلّع دائماً نحو الروح، وأرست قواعد طلب الدنيا والآخرة معاً دون أن تطغى إحداهما على الأخرى فتفسدان معاً، وأطلقت الأخلاق السامية لتحفظ الحريّات للإنسان المكرّم، كلّ الحريّات من إعتقادية وفكرية وتعبيرية ومُلكية وإجتماعية ومالية.
إنّها الحضارة الوحيدة التي تقدّم للبشرية الدين القويم القيّم بيد، وباليد الأخرى تحثّ على تحصيل العلم، كافة أنواع العلم. حضارة تطلب الإيمان بالله وبرسالاته، وبلقائه وبحسابه وعدالة جزائه، وتستنهض إستعمال العقل للتفكّر والتدبّر في خلق الله وآياته وفي مخلوقاته للإتّعاظ بها والإستفادة منها دون إسراف أو التسبّب بأضرار. حضارة تتسلّح بالحق في وجه الباطل وتمارس القوة لحمايته، حضارة تزيّنُها مكارم الأخلاق والقيم الإنسانية العليا.
ومن واقع تكريمها للإنسان، إنها الحضارة الوحيدة التي إستطاعت تقديم تشريعات وممارسات لأسس ومفاهيم إنسانية بشرية لم تستطع كل التشريعات الوضعية إلى الآن مقارعتها بمثلها حتى بعد أكثر من أربعة عشر قرناً، ناهيك عن وضعها موضع التنفيذ [viii]:
1.    ترشيد الإنتاج والإستهلاك كنتيجة مباشرة لتوحيد الوجهة والقصد في أمور الإستخلاف والتعمير، مما يؤمن إستدامة الموارد الطبيعية وتوزيع عادل للثروات، ويفعّل اللامركزية الإدارية والتنمية المحلية المتوازنه المستدامة والإستصلاح.
2.    توحيد التشريع وفلسفته بمرجعيّة واحدة للنصوص التشريعيّة، والإطلاق في الملك والإرادة والحرية لله وحده.
3.    توحيد الأمّة في تقبّل وإستيعاب ودمج ما لا يُحصى من الشعوب والأعراق والأنساب والقبائل والمعتقدات والأديان والثقافات والحضارات دون الغلبة على أيّ منها أو قهرها، لأن الهدف الأساس كان تحريرها من العبوديات التي كانت تجور عليها، هذه الحرّيات دفعتها للمساهمة الفاعلة في محيطها دون تردّد أو وجود حواجز نفسية أو مادية أو إجتماعية، دون غالب ومغلوب.
4.    "فمن مقومات الإصلاح الديني: الإصلاح السياسي المدني، على أن الإصلاحين متلازمان في الأمة الإسلامية، لا يقوم أحدهما حق القيام إلا بالآخر، والشريعة الإسلامية هادية للإصلاحين، إذ كلّ خير وصلاح للعباد يتعلّق بالمعاش والمعاد قد قررّه الإسلام"[ix].
5.    القضاء على آفات إجتماعيّة ونفسيّة وماليّة عالميّة فتّاكة مثل: القذارة والسكر والقمار والزنا والشعوذة والربا والخيلاء والإسراف والتبذير والشح والإحتكار والإقطاعية وعقوق الوالدين وتفكّك العائلة وتفكّك الجيرة وتفكّك الصداقة. الهدف النهائي الشامل هو القضاء على كل ما يهدّد حفظ الدين، والنفس، والمال، والعقل، والنسل، وكذلك تحفيز كل ما يصبّ في تفعيلها. وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: "اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على هذه الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل"[x]. كما قال: "حفظ الشريعة للمصالح الضرورية وغيرها يتم على وجهين، يكمل أحدهما الآخر، وهما: حفظها من جانب الوجود لا يحققها، يوجدها، يثبتها ويرعاها وحفظها من جانب العدم بإبعاد كل ما يزيلها أو ينقصها، أو يجعلها تختل أو تتعطل، سواءً كان شيئاً واقعاً أو متوقعاً الشرع يمنعه، أي شيء يخل بالضروريات، أو ينقصها، أو يعطلها، أو يخل بها يمنعه الشرع، سواءً كان واقعاً أو متوقعاً، فإذا كان واقعاً فالشرع يريد رفعه وإزالته، وإذا كان متوقعاً فالشرع يريد منع وقوعه وتجنبه"[xi].

بهذه التشريعات والممارسات الفعلية المبنيّة عليها، حوّلت هذه الشريعة العظيمة العرب من شراذم مهمّشة إلى نواة أمّة ذات قوة جرّارة، فتحت ودمجت في حوضها خلال ثماني عقود ما تجاوزت مساحته الجغرافية ما إستعبدته الإمبراطورية الرومانية في ثمانية قرون ولم يندمج أطلاقاً فيها! خلال هذه العقود أزيلت كل الطواغيت التي كانت تتحكّم في حوض الحضارات القديمة الرازحة تحت وطأة قرون طويلة من القهر والإستبداد، فحررّت الفتوحات الإسلاميّة الشعوب المقهورة في أوطان الشرق وحولها وأسسّت في جزء كبير من العالم القديم الدولة العالمية الأولى، والوحيدة في الواقع، وأصبحت هذه الدولة ملاذا آمنا لحريّة كل مضطهد بسبب عرقه، أو لونه، أو عقيدته.
ولم تبدأ الكوارث والملمّات البشريّة العظام بالظهور والتفشيّ على كوكبنا إلا من بعد ما يسمى زوراً وبهتاناً بعصر النهضة أو عصر التنوير الذي أدخل البشرية جمعاء في نفق مظلم لم تخرج منه حتى الآن يلتفّ حولها يعتصرها بأفظع الطرق. ولم يكن هذا الحدث الفظيع ليحصل إلاّ بعد أن تقهقرت الأمّة الإسلاميّة إلى الموقع الخلفي تكتفي بالتفرجّ على الغرب يستلم عصا القيادة ويسيء إستعمالها إلى هذا الحد الخطير الذي يتهدّد فيه مصير كوكب الأرض والبشريّة جمعاء، في حضارة لا تمجّد سوى القوة والسلطة.
ولم تكتفي الحضارة الغربية بالسعي حثيثاً لتدمير بقيّة الأعراق والحضارات بل سعت إلى إيجاد التبريرات والأسباب الموجبة لذلك، سواء كانت دينية، وبيولوجية، وتاريخية، وإجتماعية، وإقتصادية، مهما بلغت درجة التزوير والإفتراء العلمي دون دليل حقيقي، لكي "تُثْبت" تخلّفها وعدم قابليتها وقدرتها على التقدّم والتطوّر للوصول إلى مصاف الغرب، فوصمت القوانين التمييزية الجائرة التي أنتجها هذه "العلوم" وأفرزتها الممارسات الفعلية الأكثر جوراً وصمة عار ونار لا تخبو على جبين الحضارة الأوروبية والعالمية.
بالنظر إلى ما تقدّم وبالمقارنة، نرى أنّنا ما نحن الآن إلا بصدد جاهليّة حديثة أكثر ترويعاً من الجاهليّة الأولى التي حلّ مشاكلها المجتمع الإسلاميّ وقضى عليها، ليس فقط في الجزيرة العربية بل حيث كانت تعصف بأرجاء المعمورة كافة؛ وها قد تأججت نيرانها وطغت بعد أن خبت حتى كادت تنطفئ في جاهلية[xii] ذات مميزات أربع كما وصّفها القرآن الكريم، بل وذمّها وحذّر منها: ظنّ الجاهلية، حكم الجاهلية، تبرّج الجاهلية، وحميّة الجاهلية[xiii]، وهي بذلك الوصف ليست جاهليّة محصورة بالفترة التي سبقت البعثة، ولكنها تشمل أي وضع يأخذ صفة الجاهلية، المخالفة للإسلام والمناقضة له[xiv].
والناظر بتجرّد إلى كل هذه الملمّات والأحداث لا يسعه إلاّ التيقن من أن الحلّ الوحيد لإنقاذ البشرية من الكارثة المحققّة الوشيكة هو عودة الشريعة الإسلامية تشريعاً وعملاً: لتخرج هذه البشرية من الظلمات. ظلمات الوهم والخرافة. وظلمات الأوضاع والتقاليد. وظلمات الحيرة في تيه الأرباب المتفرقة, وفي اضطراب التصورات والقيم والموازين . . لتخرج البشرية من هذه الظلمات كلها إلى النور. النور الذي يكشف هذه الظلمات. يكشفها في عالم الضمير وفي دنيا التفكير. ثم يكشفها في واقع الحياة والقيم والأوضاع والتقاليد[xv].


[i]  (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التِّينِ:4)
[ii]  (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء:70)
[iii]  قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (ص:75)
[iv]  ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ ~ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (ص:71-72)
[v]  ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الجاثية:13)
[vi]   (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف:157)
[vii]  ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النحل:18)
[viii]  د. طه جابر العلواني - الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر – ص 64 – 65 - بتصرف
[ix]  محمد رشيد رضا - [تفسير المنار:4/429] - موقع المكتبة الإسلامية
[x]  الشاطبي - [الموافقات: 1/31]
[xi]  الشاطبي - [الموافقات: 2/552]
[xii]   ناصر الماجد - الألفاظ التي اقترنت بمصطلح (الجاهلية ) في القرآن الكريم، ودلالة الاقتران - موقع ملتقى أهل التفسير
[xiii]  (ثم أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّـهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّـهِ ۗ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّـهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران:154)
     (فَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50)
     (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب:33)
    (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (الفتح:26)
[xiv]  سيد قطب ومفهوم الجاهلية – مجلة الوعي
[xv]  تفسير الآية الكريمة (الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم:1) سيد قطب - في ظلال القرآن