Thursday 9 May 2019

10 - تدرّج الدعوة نحو الخطاب العالمي


 - 10تدرّج الدعوة نحو الخطاب العالمي

توجّهت الدعوة الإسلامية بشكل متدرّج نحو العالمّية وفق منهج واقعيّ حكيم يتألف من عدة مراحل، كل مرحلة وضعت أسساً مهمة لترتكز عليها المراحل اللاحقة:
1.    بدأت الدعوة فرديّة أولاً حيث توجّه الخالق عزّ وجلّ إلى رسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم، كما في قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ~ قُمْ فَأَنذِرْ ~ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ( (المدثر:3)
2.    بعد ذلك إتّسعت دائرة الدعوة لتشمل أهل بيته وأقربائه وأصدقائه المقرّبين إليه ليكونوا نواة الدعوة كما في قوله جلّ جلاله: )وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ( (الشعراء:214)، وفي مقدّمتهم زوجته خديجة رضي الله عنها، وإبن عمّه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وخادمه زيد بن حارثة رضي الله عنه، ثم صديقه الحميم أبو بكر رضي الله عنه الذي لقّب الصدّيق.
3.    ثم بعدئذ بدأت تتّسع دائرة الدعوة لتشمل قريش ومكًة والعرب عامّة: )وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا( (الشورى:7).
4.    ثم أبرم الرسول صلّى الله عليه وسلّم صلح الحديبية مع كفّار قريش ومن والاهم، فأراح الله المسلمين من القتال وفتحت الأبواب على مصراعيها أمام الرسول صلّى الله عليه وسلّم لتوسيع مدى الدعوى على العالم أجمع، فوجّه الرسائل إلى ملوك الدول العظمى وأمراء المناطق الخاضعة لنفوذهم وإلى سائر زعماء عصره يدعوهم إلى الإسلام. ولدى إستعراض الرسائل والسفراء، نفهم عالميّة التوجّه، إذ نرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى كل ملك أو أمير بما يناسب حاله، ويصلح شأنه، وإختار لسفاراته أناساً من أعقل أصحابه، وأحسنهم حديثاً، وأطلقهم لساناً، وأنتقى لكل قوم رسولاً ممن كانوا يترددون عليهم، ولهم معرفة وخبرة بأحوالهم وعاداتهم، فبعث كل رسالة مع خبير فطن يحسن القول وإيراد الحجّة والإجابة، فكان كلّ منهم حكيماً من عند حكيم[i].
5.    ثم توسعت الدائرة إلى المستوى العالمي كما في قوله عزّ وجلّ: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( (الأنبياء:107)، وكذلك )قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ[ii](، وكذلك )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ( (سبأ:28) وكذلك )تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا( (الفرقان:1).
6.    بإستطاعتنا أن نرى معنى ومغزى هذه العالميّة للرسالة والرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم وللتشريع نفسه في الكثير من الآيات القرآنية التي تتوجه للعالمين أو للناس أجمعين دون تحديد أو تخصيص لمعّين منهم، بدءا من أول سورة: )الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( (الفاتحة:2) وإنتهاء بآخر سورة )قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ~ مَلِكِ النَّاسِ ~ إِلَٰهِ النَّاسِ( (الناس:1-3).
وفي سياق الرسائل إلى الملوك والأمراء، يَحْكِي أَنَسٌ رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كتَب إلى كِسْرَى وإلى قَيْصَرَ وإلى النَّجَاشِيِّ، وإلى كلِّ جَبَّارٍ مِثْلِهم، ومنهم: المُقَوْقِسُ مَلِكُ مِصْرَ، والمُنْذِرُ بنُ سَاوَى مَلِكُ عُمَانَ، والحَارِثُ بنُ أبي شِمْرٍ صاحبُ اليَمَامَةِ، وغيرهم، يَدعُوهم إلى الله تعالى، أي: إلى الدُّخولِ في الإسلام. والنَّجَاشِيُّ الَّذِي كتَب إليه صلّى الله عليه وسلّم ليس بالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صلَّى عليه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم ؛ فإنَّهما اثنانِ، وكِلاهُما أَسْلَمَ.[iii]

وفي قراءتنا للعديد من الآيات نرى أنّ العالميّة الموجودة في الشريعة محبوكة في الخطاب الإلهي الموجّه للناس أجمعين دون تفرقة، ليس لذوي لون دون غيرهم، ولا لفئة دون فئة، ولا لطبقة إجتماعية أو ماليّة دون أخرى، ولا لعصبيّة دون عصبيّة، ولا لنسب دون آخر، ولا لأهل منطقة دون أخرى، ولا للرجال دون النساء. وتقريراً لذلك نجد أن النداء في القرآن الكريم بـصيغة )يَا أَيُّهَا النَّاسُ( ورد في عشرين موضعاً[iv].

والقارئ المتمعّن في هذه الآيات جميعا يجد أنها تخاطب جميع الناس، مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وفاسقهم، تدعوهم إلى التأمل فيما ينفعهم في آخرتهم، وتذكّرهم بربوبية الله لهم، وفقرهم إليه تبارك وتعالى، كي يكون ذلك دافعاً إلى عبادته وحده لا شريك له، وإخلاص الدين له، ولمّا كان المقصود من هذا الخطاب جميع الخلق، دون حصر بفئة معينة، ناسب أن يكون بصيغة )يَا أَيُّهَا النَّاسُ(، دون النداء بـ )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا([v]. وكذلك المتأمل بالآيات التي تكون بصيغة )يَا بَنِي آدَمَ( يجد أنّها أيضاً تخاطب جميع الناس دون تخصيص أو تمييز، لكن اللطيفة أن السياق لهذه الآيات تحديداً يشكّل تذكيراً بقصة آدم وإغواء إبليس له فكانت الصيغة مناسبة أكثر[vi].

هذه العالميّة ضرورية لأن القرآن الكريم هو "الكتاب الأخير المنزّل على النبيّ الخاتم والرسول الأخير r"، ولا ينال منها أن لغته كانت العربية، ولا أن المكان الذي إنطلق منه الوحي إلى العالم هو مكّة المكرمة، بل على العكس من ذلك تماماً. فاللغة العربية حصراً تقدّم مرجعيّة واحدة في العبادات والمعاملات، في الفتوى وفي الإجتهاد، وفي كل أمر أساسيّ يتعلق بالتشريع أو الشريعة، ومن المنطقيّ أن تكون لغة معينة هي المرجع الوحيد في أي من هذه السياقات، ولو توفّرت الترجمات المناسبة في المناطق غير الناطقة باللغة العربية. وقد إقتبست وكرّست المحافل والمنظّمات الدولية المعاصرة هذه الممارسة بتقديمها لغة مرجعيّة واحدة لأي قانون أو نظام أو تشريع معيّن مهما توفّرت من ترجمات له. وأمّا المكان والزمان المرتبطان بالدعوة فهما مناسبان حسب الحكمة الإلهية ليكونا مركزاً ومنطلقاً نحو العالمية التي تأسست نواتها التشريعية فعلياً في المدينة المنوّرة.

ولهذا استطاع الإسلام في امتداده الأول، وبالإستناد إلى الأجيال الثلاث الأولى تحديداً وقوة الزخم الذي أحدثته الدعوة معهم والذي لا يزال مستمرّاً حتّى الآن بعد أكثر من أربعة عشر قرناً، وبالرغم من جميع العقبات والانتكاسات والشروخ التي نالت من قوّة وتماسك الأمّة، أن يضمّ تحت جناحيه حوض الحضارات القديمة كلّه، وينهي القوتين العظيمتين اللتين كانتا تقتسمان العالم القديم في ذلك الحين: الفرس والروم، كما إستطاع بتطبيق فكر "اللا غالب ولا مغلوب" وأن السلام والحرية هما المراد الأساس وأن الحرب إنّما عارض مؤقّت يجب الإنتهاء منه بأسرع ما يكون وبأقل أضرار ممكنة، أن يستوعب كل الأديان والحضارات والأعراق والأنساق الثقافية والعلمية والفلسفية والفنية والجغرافية والقومية التي كانت سائدة ويصبغها كلّها بصبغته الإنسانية العالميّة المميّزة التي لا تزال شواهدها ظاهرة لكل ناظر عدل حتّى الآن بالرغم من كلّ الإعلام المسعور الظالم الساعي إلى تشويهها أو طمسها، وكلّ ذلك في فترة قياسيّة مذهلة لا تزيد عن بضعة عقود فقط وبقوّة بشرية ضئيلة الحجم نسبياً [vii].


[i]  عالمية الإسلام والرسائل النبوية إلى الملوك والأمراء – ص 79
[ii]  قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ  وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف:158)
[iii]  الراوي: أنس بن مالك | المحدث: مسلم | المصدر: صحيح مسلم | الصفحة أو الرقم: 1774 | خلاصة حكم المحدث: صحيح
[iv]  اثنان في البقرة، وأربعة في النساء، وواحد في الأعراف، وأربعة في يونس، وأربعة في الحج، وواحد في لقمان، وثلاثة في فاطر، وواحد في الحجرات
[v]  سمة الآيات المكية مخاطبة جميع الناس – من موقع الإسلام سؤال وجواب
[vi] الفرق في الخطاب القرآني بين (يا أيها الناس) و (يا بني آدم) – عبد الرحمن نور – من موقع ملتقى أهل التفسير - بتصرف
[vii]  سعيد شباَر، الإجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، بتصرف