Tuesday 10 September 2019

14 - وضع أول نظام عالميّ في المدينة منذ 14 قرنا

 -14وضع أول نظام عالميّ في المدينة منذ 14 قرنا

فور هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة المنورة، أي عام 623 م، كتب دستورًا تاريخيًا محفوظاً حتى الآن، هو ما سميّ بدستور أو صحيفة المدينة، وهو أوّل دستور فعليّ متكامل في تاريخ البشرية، أسَّسَ لدولة متنوّعة القوميّات والأجناس والأعراق والألوان واللغات والأديان والمعتقدات، يسود فيها العدل والمساواة والتكافل والتضامن والتعاون بكافة أشكاله وعلى كلّ الأصعدة[i]، لها ذاتيّة مستقلّة تميّزها عن غيرها، يحكمها قانون واحد تَسير حياتها وِفقاً له، وتهدف إلى غايات تشترك فيها جميع مكوّناتها، مع مراعاة خصوصيّات كل مكوّن دون المساس بأمن الدولة[ii].

مثّل هذا الدستور السـياسة الداخليّة للدولة الإسـلامية مع الآخر غير المسلم، سواء كان هذا الآخر يهوديّاً أو نصرانيّاّ أو وثنيّاً أو غير ذلك، وهو ما يسمّى في العصر الحديث بالقانون الدوليّ الخاص، وكذلك نظاماً متكاملاً للعلاقات الخارجيّة مع القبائل والشعوب والدول خارج المدينة المنوّرة وهو ما يُسمّى بالقانون الدوليّ العام، فيكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد وضع أول نظام في العالم نَقَلَ به أطرافاً متناحرين متقاتلين يظلمون بعضهم البعض متعدّدي الإنتماءات والأشكال والألوان والصفات إلى أمّة سياسيّة واحدة متراصّة موحدَّة شاملة متعدّدة المكوّنات، تنظر إلى نفسها وإلى غيرها نظرة موحَّدة بغضّ النظر عن مكوّناتها المتشابكة، تفرّدت بمميّزات ملفتة لنظر الباحث الذي لا يجد لها صنواً ولا نداً حتّى في العصر الحديث، لا من حيث التشريع ولا من حيث التطبيق من رأس الهرم وصولاً إلى القاعدة، كما أنّ الكثير من المؤرّخين وحتّى المستشرقين قد أفاضوا في مدحها لما فيها من مظاهر الحضارة وعالميّة التوجّه والنظام.

وفيما يلي أهمّ ما يمكننا أن نستشّفه من قواعد نقتبسها من واقع النصّ الأصلي لصحيفة أو دستور المدينة المنوّرة الذي وُضِع بناءً على أوامر الله ونواهيه في القرآن الكريم وهدي الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم في سنّته الشريفة[1]:
1.    نبذ الطبقيّة والعنصريّة والطائفيّة والإستزلام ونبذ العصبيّة القبليّة، والنـزعات المذهبيّة المتطرّفة، والثارات الجاهليّة، لصالح الأمّة / الدولة التّي تحفّز وترغّب على الأخوّة والمحبّة والتكاتف والتسامح والتعاضد والتكامل ونصر المظلوم.
2.    كفالة الأمن الاجتماعي بضمان الديّات لأهل القتيل في مقابل إبطال عادة الثأر الجاهليّة، فيتضامن الجميع ضد المعتدي الظالم حتّى تطبيق القانون.
3.    كفالة الحقوق والحرّيات للجميع وسيادة العدل والمساواة في الحقوق والواجبات العامّة أمام القضاء / القانون كونه مرجعيّة مركزية لكلّ المواطنين وغيرهم من المقيمين.
4.    تحقيق مبدأ حرية المعتقد وممارسة الشعائر والتسامح الدينيّ المفضي إلى التعايش السلمي والتعاون بين المواطنين بكافة المكونات الدينيّة العقديّة.
5.    تطبيق الإستقلال المالي واللامركزيّة الإداريّة والماليّة وفي الحوكمة لكل من المكوّنات الطائفيّة في الدولة / الأمّة.
6.    تطبيق وتفعيل الحقوق والواجبات للفرد وللجماعة معاً دون أن تطغي إحداها على الأخرى.
7.    تطبيق مبادئ التكافل والتعاون الاجتماعي والتضامن الاقتصادي بعدة صور، وضمنها الحفاظ على الدور الإيجابيّ الفاعل فقط للعشيرة والقبيلة وغيرها من الإنتماءات.
8.    حماية الأقليات، وضمناً الأقلّيات غير المسلمة والمستضعفين مهما كانوا في المجتمع وضمان حقوقهم والحفاظ عليها.
9.    الحريّة في عقد الأحلاف التي لا تضرّ الدولة / الأمّة وتحريم التعامل مع العدو وكلّ ما ومن يهدّد أمن المواطنين والدولة / الأمّة، والعمل معاً على ردع الخونة.
10.                      التكاتف في الدفاع عن الدولة / الأمّة والإنفاق في هذا الباب بشكل جماعيّ.
11.                      بث المبادئ والقيم الإنسانيّة النبيلة بين كافّة مكوّنات الدولة / الأمّة مثل الأخوّة والنصح والبرّ والعدل وحسن الجوار والوسطيّة ونبذ الظلم والإثم والعدوان والفحشاء.



[1]  أحمد قائد الشعيبي -  وثيقة المدينة المضمون والدلالة – كتاب الأمّة – العدد 110 – ذو القعدة 1426 هـ - السنة الخامسة والعشرون – الطبعة الأولى – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – قطر
   ممدوح الشيخ - مدخل إلى ثقافة قبول الآخر: رؤية إسلامية -
   محمد مسعد ياقوت - دستور المدينة.. مفخرة الحضارة الإسلامية – نسخة من أرشيف الإنترنت عن موقع (Wayback Machine) https://web.archive.org/web/20181120095628/https://archive.islamonline.net/?p=9442
   أ.د. راغب السرجاني - ما هي وثيقة المدينة أو معاهدة المدينة – عن موقع قصّة الإسلام – بتاريخ 05/03/2014 https://www.islamstory.com/ar/artical/28370/وثيقه-المدينه-معاهده-المدينه-بين-الرسول-واليهود
   هيثم مزاحم - «صحيفة المدينة» أول دستور مكتوب في العالم – 21 ديسمبر 2013 – عن موقع جريدة االحياة - http://www.alhayat.com/article/466226/صحيفة-المدينة-أول-دستور-مكتوب-في-العالم


[i]  (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (الروم:22)
     (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)
     (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل:93)
     (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود:118)
[ii]  نص ميثاق صحيفة المدينة ، السيرة النبوية لابن هشام، علّق عليها، وخرّج أحاديثها، وصنع فهارسها أ. د. عمر تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1410 هـ - 1990 م، ج2 ص 143-146.

بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.
    إنهم أمة واحدة من دون الناس .
    المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
    وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
    وبنو الحارث (من الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
    وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
    وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
    وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
    وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
    وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
    وبني الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
    وأن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل .
    وأن لا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه .
    وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم.
    ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ولا ينصر كافراً على مؤمن.
    وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم ، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
    وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
    وأن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
    وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضهم بعضاً.
    وأن المؤمنين يبئ بعضهم عن بعض بما نال دماؤهم في سبيل الله.
    وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.
    وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن.
    وأنه من اعتبط مؤمناً قتلاًَ عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولى المقتول (بالعقل)، وأن المؤمنين عليه كافة لا يحل لهم إلا قيام عليه.
    وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يؤويه ، وأنه من نصره أو أراه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل .
    وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد .
    وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
    وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
    وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف .
    وأن ليهود بن الحارث مثل ما ليهود بني عوف .
    وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف .
    وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف .
    وأن ليهود بني الأوس مثل ليهود بني عوف .
    وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته .
    وأن جفته بطن من ثعلبة كأنفسهم .
    وأن لبنى الشطبية مثل ما ليهود بني عوف وأن البر دون الإثم .
    وأن موالى ثعلبة كأنفسهم .
    وأن بطانة يهود كأنفسهم .
    وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد .
    وأنه لا ينحجز على ثأر جرح ، وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم وأن الله على أبر هذا .
    وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم ، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة , وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم .
    وأنه لا يأثم أمره بحليفه وأن النصر للمظلوم.
    وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين .
    وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة .
    وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم .
    وأن لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها .
     وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله ، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره .
    وأن لا تجار قريش ولا من نصرها .
    وأن بينهم النصر على من دهم يثرب .
    وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه ، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين .
    على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم .
    وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
    وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو آثم، وأن الله جار لمن بر واتقى.  
 نهاية الوثيقة .